هناك حوالي 7000 لغة محكية في جميع أنحاء العالم – وجميعها لها أصوات ومفردات وهياكل مختلفة. فهل تغير اللغات التي نتكلم بها في طريقة تفكيرنا ورؤيتنا للأمور؟ يقول بوروديتسكي: “إن جمال التنوع اللغوي يكشف لنا كمال العقل البشري فهو مبتكر ومرن “.
ومما يلاحظ هو تأثير طريقة الكتابة للغة العربية واستعمالها في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي وارتباطه بمفاهيم جديدة وكذلك سلوكيات مستحدثة، وقد ينكر البعض بأن التغير في الكلمات يغير في السلوك ولكن هذه حقيقة يجب أخذها بالحسبان.
موضوعنا في هذا المقال هو حول تأثير المفردات ومدى اندماجها في المعارف والممارسات البشرية
إحدى الأمثلة اللافتة على قدرة اللغة على تغيير طريقة تفكير متحدثيها هم شعب الكوكتايير، يعيشون على الحافة الغربية من كيب يورك، شعب الكوكتايير لا يستخدم مصطلحات الاتجاهات التي عادة ما يستخدمها معظم الناس من جنسيات مختلفة مثل اليسار واليمين، بدلا من ذلك يستخدمون الاتجاهات الأساسية مثل: شرق،غرب، جنوب، شمال.
على سبيل المثال يقولون: هناك نملة على ساقك الجنوبية الغربية أوحرك فنجانك إلى الشمال الشرقي قليلاً. ايضاً، لدى شعب الكوكتايير، المعنى الحرفي لكلمة “مرحبا” في لغتهم هو إلى أين أنت ذاهب، فيكون الجواب: ذاهب الى شمال شرقي المدينة في المسافة البعيدة، ماذا عنك؟”، وهذا يولد عند شعب كو تايير وعي كبير بالاتجاهات، فحرفياً لا يمكن للشخص ان يرد التحية دون ان يكون لديه المعرفة باتجاهه او الى اين ذاهب. فلغتهم تترك اثر كبير في طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم.
خدعة صغيرة لغوية تعلمناها منذ الطفولة هي معرفة قائمة الارقام وكيفية تطبيقها (العد). بعض الناس لا يستطيعون استخدام العد لأن لغاتهم لا تحتوي على كلمات أو مصطلحات تخص الأرقام، فليس لديهم كلمات مثل خمسة أو ثمانية، فالأشخاص الذين يتكلمون هذه اللغات لا يستخدمون تقنية العد، ولديهم مشاكل في معرفة الكميات. احدى اهم الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع كانت على قبيلة بدائية مكونة من ٢٠٠ شخص يعيشون على شط نهر الأمازون (قبيلة بيراها).
ونظام العد عندهم كان ١،٢، والكثير. لم يكن بالنسبة لهم بضاعة تتكون من ٣ حبات نفس ال ،١٠٠ نفس والاف. لبساطة حياتهم هذا النظام كافي لهم، فهم اشخاص يعيشون على ضفاف نهر ويصطادون السمك ويقطفون ثمار، لا يحتاجوا ارقام لحسابات بنوك او نسب لدفع ضرائب او للتعداد السكاني، لا يحتاجوا لهذه الأرقام المعقدة. قبيلة بيراها ليس لديهم مصطلحات مختصة بالأرقام في لغتهم، ولكن هل هم غير محتاجون لها او لا يفهموها لعدم وجودها في لغتهم؟ القائمين على هذه الدراسة وضعوا امام افراد هذه القبيلة ١٥ سمكة وطلبوا منهم وضع عدد مماثل للسمك امام مجموعة السمك الأولى! اهل القبيلة كانوا يفشلوا في تقدير او تقليد عدد الأسماك الموضع امامهم ولا حتى بشكل تقريبي، كل ما كان عدد الأسماك امامهم أكبر كل ما كانت المهمة أصعب بالنسبة لهم. لم يستطيعوا التفريق بين ١٥ سمكة و٢٠ سمكة لان ليس لديهم أساسا لفظ الرقم خمسة عشر ولا لفظ عشرين باللغة، فهذا دليل على ان الانسان يصعب عليه فهم شيء غير موجود في اللغة الذي يتكلم بها حتى لو كانت هذه الأمور جزء من ممارسات حياتية روتينية.
واللغات تختلف أيضًا في طريقة تقسيم أطياف الألوان في العالم البصري. فبعض اللغات تحتوي على الكثير من الكلمات للألوان والاخر يحتوي على بضع كلمات فقط مثل (فاتح وداكن) وبعضها يميز الأوان واطيافه بمصطلحات خاصة. على سبيل المثال: في اللغة الإنجليزية كلمة زرقاء تغطي جميع ظلال اللون الأزرق ولكن الاختلاف الوحيد بين الاطياف في لغتهم هو إضافة كلمة فاتح او داكن.
مثال اخر معاكس هو اللغة الروسية فهناك مصطلح خاص بظلال اللون الأزرق الفاتح والذي هو (جلوبوي)، وظلال الأزرق الفاتح تسمى (سينجي). وفقا للبحوث، تبين أن الروس هم أسرع في التمييز بين اطياف اللون الأزرق لوجود مصطلحات خاصة بكل طيف في لغتهم، وعندما تنظر إلى أدمغة الناس وهم ينظرون إلى الألوان، فإن الأشخاص الذين يستخدمون كلمات مختلفة للون الأزرق الفاتح والأزرق الداكن سيعطون رد فعل مفاجئ لتغيرات اللون في حين أن أدمغة المتحدثين باللغة الإنجليزية الذين لا يملكون مصطلحات خاصة بكل طيف لا يشعرون بهذا التمييز القاطع، فليس لديهم ردة فعل مفاجئة لتغير للون امامهم. أيضا، في اللغة العربية هنالك مصطلحات مختلفة تحدد أطياف اللون الأزرق، مثل الأزرق السماوي، النيلي، الكحلي، والتركواز، فهل يعني ذلك ان المتحدثين باللغة العربية يستطيعون رؤية وتمييز اختلافات أطياف معينة من اللون الأزرق بينما المتحدثين باللغة الإنجليزية لا يستطيعون تمييز وجود هذه الألوان أساسا بنفس السهولة والسرعة.
هنالك دراسة أخرى نشرت في فترة الثمانينيات كان المتخصصين يحاولون ملاحظة العلاقة بين اللغة التي يتكلمها الطفل وقدرته على تمييز جنسه (أن يقول إنا بنت او أنا ولد). الأطفال الذين خضعوا للدارسة كانوا من بلدان مختلفة ويتكلمون بلغات مختلفة، بعض من هذه اللغات فيها تمييز واضح بين الذكر والانثى باستخدام الضمائر والافعال والصفات مثل اللغة السامية، ولغات متوسطة مثل اللغة الإنجليزية التي تحتوي على الفعل (eat)الذي لا يفرق بين الذكر والانثى ووصف happyأيضا، ولكن هنالك تمييز قليلاً باستخدام he and she. وهنالك لغات لا تميز بين الذكر والانثى ابداً بمفرداتها مثل اللغة الفنلندية، فليس لديهم ضمير للذكر او للأنثى، لغتهم تحتوي على ضمير واحد وهو ( (han، فالأطفال الفنلنديون يستخدمون نفس الكلمات لوصف أمهم او أبيهم ، الذكر يتوجه له أوامر بنفس صيغة أخته الفتاة. ولهذا فإن تمييز الجنس عند الأطفال الفنلنديين كان يظهر متأخراً سنة كاملة عن الطفل المتحدث بإحدى اللغات السامية، فالأطفال الفنلنديين تأخروا بتمييز جنسهم بسبب لغتهم، فاستيعاب الفرق بين كونهم ذكر أو أنثى كان صعب لأن لغتهم لا تساعدهم على فهم هذا الاختلاف، اللغة هي ليست فقط الأداة التي ممكن أن تعبر بها عن نفسك والعالم التي تراه ولكن تخيل لو كانت لغتك هي التي تجعلك ترى العالم … حرفيا.