غالباً ما نقرأ كتباً أو مستندات مهمة، ثم لا نكاد نتذكر منها شيئاً بعد أيام قليلة. فما السبب؟ وكيف نحول القراءة إلى عملية فكرية تحفظ المعلومات وتطور فهمنا؟
الإجابة تكمن في التفاعل النشط مع النصوص، أو كما اطلق عليها المفكر مورتيمر أدلر: وضع علامات على الكتب. فبعكس ما يظنه الكثيرون، فإن تدوين الملاحظات والتعليقات في الهوامش لا يُفسد الكتب، بل يمنحها حياةً جديدة وفكرية ممتدة. هذه إحدى أهم طرق تحسين التذكر ووسائل القراءة الفعالة.
في هذا المقال، سنتناول الفكرة بشكل شامل، ونتعرف على فوائدها، وكيفية تطبيقها ليس فقط في القراءة الشخصية، بل أيضاً في بيئة العمل من خلال التعامل الذكي مع المستندات والتقارير. وسنتطرق أيضاً إلى كيفية الحفظ والفهم باستخدام أدوات بسيطة وعلمية.
لماذا ننسى ما نقرأ بسرعة؟
كثير من الناس يعانون من صعوبة في تذكر ما يقرؤون، سواء كان كتاباً ثقافياً أو تقرير عمل. السبب يعود إلى أن معظم القراءات تتم بشكل سطحي، حيث تمر الكلمات على العينين دون أن تترك أثراً عميقاً في الذاكرة.
علم النفس يؤكد أن الدماغ يحتفظ بالمعلومات التي يشارك فيها، لا التي يستقبلها فقط. ولذلك، فإن التفاعل مع النص: من خلال الكتابة، التلخيص، التعليق، أو حتى التساؤل هو المفتاح لتخزينه بشكل دائم. وتُعد هذه من أبرز تقنيات التلخيص التي تعزز التركيز عند القراءة وتحفز على التعلم الذاتي.
ما الذي يجعل التفاعل مع النص ضرورياً؟
عندما تقرأ دون تعليق، فإنك ببساطة تمر عبر الأفكار. لكن عندما تتوقف لتضع ملاحظة، فأنت تُجبر نفسك على الفهم، وتُدرب عقلك على الانتباه والتفكير النقدي. هذه الممارسة البسيطة تُحول القراءة إلى حوار بينك وبين المؤلف، وتساعد على تثبيت المعاني.
من هو مورتيمر أدلر وما فكرته الثورية؟
في عام 1940، نشر مورتيمر أدلر مقالاً بعنوان “كيف تضع علامات على الكتاب”، دافع فيه عن فكرة جريئة: لا فائدة من كتاب لا يُستخدم، ولا معنى لقراءة لا تتضمن تفاعل. بالنسبة له، الكتاب ليس شيئاً مقدساً يجب الحفاظ عليه نظيفاً، بل أداة فكرية يجب استخدامها. وقد أثبتت الأبحاث الحديثة في علم النفس التعليمي أن هذا النهج فعال فعلاً في تعزيز التذكر.
الربط بالواقع المهني: كيف تفيدك هذه المهارة في العمل؟
في عالم العمل، نقرأ تقارير، عقود، مذكرات داخلية، وبريد إلكتروني باستمرار. ولكن كم مرة شعرت أنك قرأت مستنداً دون أن تفهمه فعلاً؟ هنا يأتي دور التفاعل النشط.
التعليق على المستندات المهنية — سواء عبر برامج مثل Adobe Acrobat أو أدوات مثل Notion وMicrosoft Word — يمكن أن يغير تجربة القراءة بالكامل. إليك بعض الفوائد:
- الفهم الأعمق: الملاحظات تساعدك على تتبع المنطق والأفكار الرئيسية.
- التواصل الواضح: يمكنك تسليط الضوء على ما تحتاج إلى مناقشته مع الزملاء.
- التوثيق الذكي: توفر سجلاً مرجعياً لأفكارك وانطباعاتك عند الرجوع للملف لاحقاً.
نصائح لتطبيق التفاعل النشط في بيئة العمل
- استخدم أدوات التعليق الرقمي: معظم برامج العمل تسمح بالتظليل والتعليق داخل الملفات.
- ألّف الأفكار بلغتك: بدلاً من نسخ النص، أعد صياغته بأسلوبك.
- لخّص الأقسام الطويلة: استخدم تعليقات نهاية القسم لتكتب ملخصاً قصيراً.
- شارك الملاحظات مع الفريق: لتبادل الافكار وضمان توحيد التفسير.
بهذه الطريقة، لا يصبح المستند مجرد شيء تُطالعه، بل يصبح حواراً مهنياً مستمراً يربط بينك وبين العمل.
كيف تؤكد العلوم الحديثة هذه الفكرة؟
لقد دعم علم النفس الحديث فكرة أدلر القديمة حول أهمية التفاعل النشط مع النصوص، فإحدى أبرز النظريات التي تؤكد ذلك هي تقنية “الترميز التوسعي” (Elaborative Encoding)، والتي تعتمد على تفسير المفاهيم والمعلومات بأسلوبك الخاص أو ربطها بخبراتك السابقة.
عندما تكتب ملاحظات في الهامش أو تعيد صياغة فكرة قرأتها في جملة بسيطة، فإنك تحفّز مناطق متعددة من الدماغ خاصة تلك المسؤولة عن الفهم والذاكرة طويلة المدى، الأمر الذي يضاعف فرص تذكرك للمعلومة لاحقًا.
بالإضافة لذلك، تشير الدراسات إلى أن تدوين الملاحظات بخط اليد وليس فقط عبر الأجهزة، يزيد من استيعاب المحتوى لأنك تضطر للتعبير عن افكارك واختيار الكلمات بنفسك، مما يُحفّز الفهم العميق لديك.
نصائح عملية لوضع العلامات على الكتب
إليك بعض الطرق العملية والبسيطة لتبدأ بوضع علامات على الكتب:
- استخدم النجوم أو الرموز لتمييز الأفكار اللافتة.
- ضع دائرة حول المفردات الجديدة مع كتابة معناها بجوارها.
- خطّ تحت العبارات الجوهرية التي تشكل صلب الفكرة.
- رقّم النقاط المتسلسلة لتسهيل تتبع المنطق أو الخطوات.
- دوّن ملاحظات مختصرة في الهوامش لشرح أو نقد الفكرة.
- لخّص كل فصل أو قسم بلغة خاصة بك في نهايته أو على ورقة خارجية.
ولا تنسَ ما قاله أدلر: اكتب بالحبر، لا بالقلم الرصاص، فذلك يمنح الملاحظة طابع الجدية والالتزام.